فصل: تفسير الآيات (27- 32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (27- 32):

{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)}
{إِنَّ المبذرين كَانُواْ إخوان الشياطين} تعليلٌ للنهي عن التبذير ببيان أنه يجعل صاحبَه ملزوزاً في قَرن الشياطين، والمرادُ بالأخوة المماثلةُ التامةُ في كلِّ ما لا خيرَ فيه من صفات السوءِ التي من جملتها التبذيرُ أي كانوا بما فعلوا من التبذير أمثالَ الشياطين، أو الصداقةُ والملازمةُ أي كانوا أصدقاءَهم وأتباعَهم فيما ذُكر من التبذير والصرْفِ في المعاصي فإنهم كانوا ينحَرون الإبلَ ويتياسرون عليها ويبذّرون أموالَهم في السمعة وسائرِ ما لا خير فيه من المناهي والملاهي، أو المقارنةُ أي قرناءَهم في النار على سبيل الوعيد {وَكَانَ الشيطان لِرَبّهِ كَفُورًا} من تتمة التعليل أي مبالِغاً في كفران نعمتِه تعالى لأن شأنه أن يصرِفَ جميع ما أعطاه الله تعالى من القُوى والقدر إلى غير ما خُلقت هي له من أنواع المعاصي والإفسادِ في الأرض وإضلالِ الناس وحملِهم على الكفر بالله وكفرانِ نِعَمه الفائضةِ عليهم وصرفِها إلى غير ما أمر الله تعالى به، وتخصيصُ هذا الوصفِ بالذكر من بين سائر أوصافِه القبيحة للإيذان بأن التبذيرَ الذي هو عبارةٌ عن صرف نِعَم الله تعالى إلى غير مصْرِفها من باب الكفرانِ المقابلِ للشكر الذي هو عبارةٌ عن صرفها إلى ما خُلقت هي له. والتعرضُ لوصف الربوبيةِ للإشعار بكمال عُتوِّه فإن كفرانَ نعمةِ الربِّ مع كون الربوبية من أقوى الدواعي إلى شكرها غايةُ الكُفران ونهايةُ الضلال والطغيان.
{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ} أي إن اعتراك أمرٌ اضطَرَّك إلى أن تُعرِض عن أولئك المستحقين {ابتغاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ} أي لفقد رزقٍ من ربك، إقامةٌ للمسبّب مُقام السبب فإن الفقدَ سببٌ للابتغاء {تَرْجُوهَا} من الله تعالى لتُعطيَهم وكان عليه السلام إذا سُئل شيئاً وليس عنده أعرض عن السائل وسكت حياءً فأُمر بتعهّدهم بالقول الجميل لئلا تعتريَهم الوَحشةُ بسكوته عليه السلام، فقيل: {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا} سهلاً ليّناً وعِدْهم وعداً جميلاً، من يسُر الأمرُ نحوُ سعِد، أو قل لهم رزَقنا الله وإياكم من فضله على أنه دعاءٌ لهم ييّسر عليهم فقرَهم.
{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} تمثيلان لمنع الشحيحِ وإسرافِ المبذِّرِ زجراً لهما عنهما وحملاً على ما بينهما من الاقتصاد.
كلا طَرَفَيْ قصدِ الأمورِ ذميمُ

وحيث كان قبحُ الشحِّ مقارِناً له معلوماً من أول الأمر رُوعيَ ذلك في التصوير بأقبح الصور، ولمّا كان غائلةُ الإسراف في آخره بُيِّن قبحُه في أثره فقيل: {فَتَقْعُدَ مَلُومًا} أي فتصيرَ ملوماً عند الله تعالى وعند الناسِ وعند نفسك إذا احتجتَ وندِمْت على ما فعلت {مَّحْسُوراً} نادماً أو منقطعاً بك لا شيءَ عندك من حسَره السفرُ إذا بلغ منه.
وما قيل من أنه روي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: بينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قاعدٌ إذ أتاه صبيٌّ فقال: إن أمي تستكْسيك دِرعاً فقال عليه السلام: «من ساعة إلى ساعة فَعُد إلينا» فذهب إلى أمه فقالت له: قل: إن أمي تستكسيك الدرعَ الذي عليك، فدخل صلى الله عليه وسلم داره ونزَع قميصه وأعطاه وقعد عُرْياناً، وأذّن بلالٌ، وانتظروا فلم يخرُجْ للصلاة فنزلت. فيأباه أن السورة مكيةٌ خلا آياتٍ في آخرها، وكذا ما قيل إنه عليه السلام أعطى الأقرعَ بنَ حابس من الإبل وكذا عُيَينةَ بنَ حصنٍ الفزاريَّ فجاء عباسُ بنُ مِرداس فأنشد يقول:
أتجعل نهبي ونهبَ العُبَي ** د بَيْنَ عُيَيْنَةَ والأَقْرَعِ

وما كان حِصْنٌ ولا حابس ** يفوقان مِرداسَ في مجمع

وما كنتُ دون امرىء منهما ** ومَنْ تَضَعِ اليومَ لا يُرفعِ

فقال عليه السلام: «يا أبا بكر اقطعْ لسانه عنّي، أعطه مائةً من الإبل» وكانوا جميعاً من المؤلفة القلوب فنزلت.
{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ} تعليلٌ لما مر أي يوسّعه على بعض ويضيِّقه على آخرين حسبما تتعلق به مشيئتُه التابعةُ للحِكمة فليس ما يَرْهقُك من الإضافة التي تحوِجُك إلى الإعراض عن السائلين أو نفادُ ما في يدك إذا بسطتَها كلَّ البسْطِ إلا لمصلحتك {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} تعليلٌ لما سبق أي يعلم سرَّهم وعلَنَهم فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم، ويجوز أن يراد أن البسطَ والقبضَ من أمر الله العالم بالسرائر والظواهرِ الذي بيده خزائنُ السمواتِ والأرض، وأما العبادُ فعليهم أن يقتصدوا، وأن يراد أنه تعالى يبسُط تارةً ويقبِضُ أخرى فاستنّوا بسنته فلا تقبِضوا كلَّ القبض ولا تبسُطوا كل البسط، وأن يراد أنه تعالى يبسُط ويقدِر حسب مشيئتِه فلا تبسُطوا على من قُدِر عليه رزقُه، وأن يكون تمهيداً لقوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إملاق} أي مخافةَ فقر، وقرئ بكسر الخاء، كانوا يئِدون بناتِهم مخافةَ الفقر فنُهوا عن ذلك {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} لا أنتم فلا تخافوا الفاقةَ بناء على علمكم بعجزكم عن تحصيل رزقِهم وهو ضمانٌ لرزقهم وتعليلٌ للنهي المذكور بإبطال موجِبه في زعمهم، وتقديمُ ضميرِ الأولاد على المخاطَبين على عكس ما وقع في سورة الأنعام للإشعار بأصالتهم في إفاضة الرزقِ أو لأن الباعثَ على القتل هناك الإملاقُ الناجزُ ولذلك قيل: من إملاق وهاهنا الإملاقُ المتوقع، ولذلك قيل: خشيةَ إملاقٍ فكأنه قيل: نرزقُهم من غير أن ينتقص من رزقكم شيءٌ فيعتريكم ما تخشَوْنه وإياكم أيضاً رزقاً إلى رزقكم {إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خطأ كَبِيراً} تعليلٌ آخرُ ببيان أن المنهيَّ عنه في نفسه منكرٌ عظيم، والخِطْءُ الذنبُ والإثمُ يقال: خطِىءَ خِطْأً كأثِم إثماً، وقرئ بالفتح والسكون وبفتحتين بمعناه كالحِذْر والحذَر، وقيل: بمعنى ضد الصواب، وبكسر الخاء والمد وبفتحها ممدوداً وبفتحها وحذف الهمزة وبكسرها كذلك.
{وَلاَ تَقْرَبُواْ} بمباشرة مباديه القريبةِ أو البعيدة فضلاً عن مباشرته وإنما نهى عن قُربانه على خلاف ما سبق ولحِق من القتل للمبالغة في النهي عن نفسه لأن قربانه داعٍ إلى مباشرته. وتوسيطُ النهي عنه بين النهي عن قتل الأولادِ والنهي عن قتل النفسِ المحرمة على الإطلاق باعتبار أنه قتلٌ للأولاد لِما أنه تضييعٌ للأنساب فإن من لم يثبُتْ نسبُه ميِّتٌ حكماً {الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} فَعلةً ظاهرةَ القبح متجاوزةً عن الحد {وَسَاء سَبِيلاً} أي بئس طريقاً طريقُه، فإن غصْبُ الأبضاعِ المؤدّي إلى اختلال أمر الأنسابِ وهيَجانِ الفتن، كيف لا وقد قال النبي عليه السلام: «إذا زنى العبدُ خرجَ منه الإيمانُ فكانَ على رأسه كالظُّلّةِ فإذا انقطع رجعَ إليه» وقال عليه السلام: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» وعن حذيفة رضي الله عنه أنه قال عليه السلام: «إياكم والزنى فإن فيه ستَّ خصال ثلاثٌ في الدنيا وثلاثٌ في الآخرة فأما التي في الدنيا فذهابُ البهاء ودوامُ الفقر وقِصَرُ العمر، وأما التي في الآخرة فسخطُ الله تعالى وسوءُ الحساب والخلودُ في النار».

.تفسير الآيات (33- 34):

{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)}
{وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله} قتْلَها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد {إِلاَّ بالحق} إلا بإحدى ثلاث: كفرٍ بعد إيمان، وزِناً بعد إحصان، وقتلِ نفسٍ معصومةٍ عمداً، فالاستثناءُ مفرَّغٌ أي لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحقِّ أو ملتبسين أو ملتبسةً بشيء من الأشياء، ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوفٍ أي لا تقتُلوها قتلاً ما إلا قتلاً متلبساً بالحق {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا} بغير حق يوجب قتلَها أو يُبيحه للقاتل حتى إنه لا يُعتبر إباحتُه لغير القاتل فإن من عليه القصاصُ إذا قتله غيرُ من له القِصاصُ يُقتصّ له، ولا يفيده قولُ الوليِّ: أنا أمرتُه بذلك ما لم يكن الأمرُ ظاهراً {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ} لمن يلي أمرَه من الوارث أو السلطانِ عند عدم الوارث {سلطانا} تسلّطاً واستيلاءً على القاتل يؤاخذه بالقصاص أو بالدية حسبما تقتضيه جنايتُه، أو حجةً غالبة {فَلاَ يُسْرِف} وقرئ: {لا تسرفْ} {فّى القتل} أي لا يُسرف الوليُّ في أمر القتل بأن يتجاوز الحدَّ المشروعَ بأن يزيد عليه المُثْلة أو بأن يقتُل غيرَ القاتل من أقاربه، أو بأن يقتلَ الاثنين مكانَ الواحد كما يفعله أهلُ الجاهلية أو بأن يقتل القاتلَ في مادة الدّية وقرئ بصيغة النفي مبالغةً في إفادة معنى النهي {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} تعليلٌ للنهي والضميرُ للولي على معنى أنه تعالى نصره بأن أوجب له القِصاصَ أو الديةَ وأمَر الحكامَ بمعونته في استيفاء حقِّه فلا يبْغِ ما وارء حقِّه ولا يستزِدْ عليه ولا يخرُجْ من دائرة أمرِ الناصر. أو للمقتول ظلماً على معنى أنه تعالى نصره بما ذُكر فلا يسرف وليُّه في شأنه أو للذي يقتله الوليُّ ظلماً وإسرافاً، ووجهُ التعليل ظاهرٌ، وعن مجاهد أن الضميرَ في لا يسرفْ للقاتل الأول ويعضده قراءةُ فلا تسرفوا والضميران في التعليل عائدان إلى الولي أو المقتول، فالمرادُ بالإسراف حينئذ إسرافُ القاتل على نفسه بتعريضه لها للهلاك العاجل والآجلِ لا الإسرافُ وتجاوزُ الحد في القتل أي لا يسرف على نفسه في شأن القتل كما في قوله تعالى: {قُلْ ياأهل عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم} نهيٌ عن قربانه لما ذكر من المبالغة في النهي عن التعرض له ومن إفضاء ذلك إليه وللتوسل إلى الاستثناء بقوله تعالى: {إِلاَّ بالتى هي أَحْسَنُ} أي إلا بالخَصلة والطريقة التي هي أحسنُ الخِصال والطرائق وهي حفظُه واستثماره {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} غايةٌ لجواز التصرفِ على الوجه الأحسن المدلولِ عليه بالاستثناء لا للوجه المذكور فقط {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} سواءٌ جرى بينكم وبين ربِّكم أو بينكم وبين غيرِكم من الناس، والإيفاءُ بالعهد والوفاءُ به هو القيامُ بمقتضاه والمحافظةُ عليه ولا يكاد يُستعمل إلا بالباء فرقاً بينه وبين الإيفاء الحسيِّ كإيفاء الكيل والوزن {إِنَّ العهد} أُظهر في مقام الإضمارِ إظهاراً لكم والعنايةِ بشأنه، أو لأن المرادَ مطلقُ العهد المنتظمِ للعهد المعهود {كَانَ مَسْؤُولاً} أي مسؤولاً عنه على حذف الجارِّ وجعْلِ الضمير بعد انقلابه مرفوعاً مستكناً في اسم المفعولِ كقوله تعالى: {وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} أي مشهودٌ فيه، ونظيرُه ما في قوله تعالى: {تِلْكَ ءايات الكتاب الحكيم} على أن أصلَه الحكيمُ قائلُه فحذف المضافُ وجُعل الضمير مستكناً في الحكيم بعد انقلابه مرفوعاً، ويجوز أن يكون تخييلاً كأنه يقال للعهد: لم نكثتَ وهلاّ وفَّى بك تبكيتاً للناكث كما يقال للموؤدة: بأي ذنبٍ قُتلت.

.تفسير الآيات (35- 36):

{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)}
{وَأَوْفُوا الكيل} أي أتموه ولا تُخسِروه {إِذا كِلْتُمْ} أي وقت كيلِكم للمشترين وتقييدُ الأمر بذلك لما أن التطفيفَ هناك يكون وأما وقت الاكتيالِ على الناس فلا حاجة إلى الأمر بالتعديل قال تعالى: {إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ} الآية {وَزِنُواْ بالقسطاس} وهو القرسطون، وقيل: كلُّ ميزان صغيراً كان أو كبيراً، روميٌّ معرّب ولا يقدح ذلك في عربية القرآن لانتظام المعرَّبات في سلك الكلمِ العربية وقرئ بضم القاف {المستقيم} أي العدْلِ السويّ ولعل الاكتفاءَ باستقامته عن الأمر بإيفاء الوزن لما أن عند استقامتِه لا يتصور الجَوْرُ غالباً بخلاف الكيل فإنه كثيراً ما يقع التطفيفُ مع استقامة الآلة كما أن الاكتفاءَ بإيفاء الكيل عن الأمر بتعديله لما أن إيفاءَه لا يُتصوَّر بدون تعديل المكيالِ وقد أُمر بتقويمه أيضاً في قوله تعالى: {أَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط} {ذلك} أي إيفاءُ الكيلِ والوزن بالميزان السوي {خَيْرٌ} في الدينا إذ هو أمانةٌ توجب الرغبةَ في معاملته والذكرَ الجميلَ بين الناس {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} عاقبةً، تفعيلٌ من آل إذا رجع والمرادُ ما يؤول إليه.
{وَلاَ تَقْفُ} ولا تتبعْ من قفا أثرَه إذا تبِعه، وقرئ: {ولا تقُفْ} من قاف أثرَه أي قفاه، ومنه القافةُ في جمع القائف {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي لا تكن في اتباع ما لا علمَ لك به من قول أو فعل كمن يتّبعُ مسلكاً لا يدري أنه يوصله إلى مقصِده، واحتج به من منع اتباعَ الظنِّ وجوابُه أن المرادَ بالعلم هو الاعتقادُ الراجحُ المستفادُ من سند قطعياً كان أو ظنيًّا واستعمالُه بهذا المعنى مما لا يُنكَر شيوعُه، وقيل: إنه مخصوصٌ بالعقائد، وقيل: بالرمي وشهادةِ الزورِ ويؤيده قولُه عليه الصلاة والسلام: «مَنْ قفا مؤمناً بما ليس فيه حبَسه الله تعالى في رَدْغة الخَبال حتى يأتيَ بالمخرج» ومنه قول الكميت:
ولا أرمي البريءَ بغير ذنب ** ولا أقفو الحواصِنَ إن رُمينا

{إِنَّ السمع والبصر والفؤاد} وقرئ بفتح الفاءِ والواو المقلوبةِ من الهمزة عند ضم الفاء {كُلُّ أولئك} أي كلُّ واحد من تلك الأعضاءِ فأُجريت مُجرى العقلاءِ لما كانت مسؤولةً عن أحوالها شاهدةً على أصحابها. هذا وإن أولاء وإن غلب في العقلاء لكنه من حيث إنه اسمٌ لذا الذي يعُمّ القَبيلين جاء لغيرهم أيضاً قال:
ذُمَّ المَنازِلَ بعد مَنزِلَة اللِّوى ** والعيشَ بعدَ أولئِكَ الأيامِ

{كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} أي كان كلٌّ من تلك الأعضاء مسؤولاً عن نفسه، على أن اسمَ كان ضميرٌ يرجِعُ إلى كلُّ وكذا الضميرُ المجرورُ، وقد جُوّز أن يكون الاسمُ ضميرَ القافي بطريق الالتفات إذ الظاهرُ أن يقال: كنتَ عنه مسؤولاً، وقيل: الجارُّ والمجرور في محل الرفع قد أُسند إليه مسؤولاً معللاً بأن الجارَّ والمجرور لا يلتبس بالمبتدأ وهو السببُ في منع تقديمِ الفاعلِ وما يقوم مقامَه.
ولكن النحاسَ حكى الإجماعَ على عدم جواز تقديمِ القائم مقامَ الفاعل إذا كان جاراً ومجروراً، ويجوز أن يكون من باب الحذفِ على شريطة التفسيرِ، ويحذف الجارّ من المفسر ويعود الضميرُ مستكناً كما ذكرنا في قوله تعالى: {يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} وجُوّز أن يكون مسؤولاً مسنداً إلى المصدر المدلولِ عليه بالفعل وأن يكون فاعلُه المصدرَ وهو السؤالُ وعنه في محل النصب. وسأل ابن جني أبا علي عن قولهم: فيك يُرغب، وقال: لا يرتفع بما بعده، فأين المرفوع؟ فقال: المصدرُ أي فيك يُرغب الرغبةُ بمعنى تُفعل الرغبة، كما في قولهم: يُعطي ويمنع أي يفعل الإعطاء والمنع، وجُوز أن يكون اسمُ كان أو فاعله ضميرَ كلُّ بحذف المضافِ أي كان صاحبه عنه مسؤولاً أو مسؤولاً صاحبُه.

.تفسير الآيات (37- 38):

{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)}
{وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض} التقييدُ لزيادة التقرير والإشعارِ بأن المشيَ عليها مما لا يليق بالمرح {مَرَحاً} تكبراً وبطراً واختيالاً وهو مصدرٌ وقع موقعَ الحال أي ذا مرحٍ أو تمرح مرحاً أو لأجل المرح، وقرئ بالكسر {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض} تعليلٌ للنهي، وفيه تهكّم بالمختال وإيذانٌ بأن ذلك مفاخرةٌ مع الأرض وتكبرٌ عليها أي لن تخرِقَ الأرض بدَوْسك وشدة وطأتك، وقرى بضم الراء {وَلَن تَبْلُغَ الجبال} التي هي بعضُ أجزاء الأرض {طُولاً} حتى يمكن لك أن تتكبر عليها إذ التكبرُ إنما يكون بكثرة القوة وعِظَم الجثة وكلاهما مفقودٌ، وفيه تعريضٌ بما عليه المختالُ من رفع رأسه ومشيِه على صدور قدميه.
{كُلُّ ذلك} إشارةٌ إلى ما علم في تضاعيف ذكر الأوامرِ والنواهي من الخِصال الخمس والعشرين {كَانَ سَيّئُهُ} الذي نُهي عنه وهي اثنتا عشرة خَصلة {عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا} مبغَضاً غيرَ مَرْضيّ أو غيرَ مراد بالإرادة الأولية لا غيرَ مرادٍ مطلقاً لقيام الأدلةِ القاطعة على أن جميع الأشياء واقعةٌ بإرادته سبحانه وهو تتمةٌ لتعليل الأمور المنهيّ عنها جميعاً، ووصفُ ذلك بمطلق الكراهة مع أن البعضَ من الكبائر للإيذان بأن مجردَ الكراهة عنده تعالى كافيةٌ في وجوب الانتهاءِ عن ذلك، وتوجيهُ الإشارةِ إلى الكل ثم تعيينُ البعض دون توجيهها إليه ابتداءً لما أن البعض المذكورَ ليس بمذكور جملةً بل على وجه الاختلاطِ، وفيه إشعارٌ بكون ما عداه مرضياً عنده تعالى وإنما لم يصرح بذلك إيذاناً بالغنى عنه، وقيل: الإضافةُ بيانيةٌ كما في آية الليل وآية النهار، وقرئ: {سيئةً} على أنه خبرُ كان وذلك إشارةٌ إلى ما نُهي عنه من الأمور المذكورة ومكروهاً بدلٌ من سيئةً أو صفةٌ لها محمولةٌ على المعنى فإنه بمعنى سيئاً، وقد قرئ به أو مُجرى على موصوف مذكر أي أمراً مكروهاً أو مُجرى مَجرى الأسماءِ زال عنه معنى الوصفية، ويجوز كونه حالاً من المستكنّ في كان أو في الظرف على أنه صفةُ سيئه، وقرئ: {سيئاته}، وقرئ: {شأنُه}.